قصه حياه سيدنا موسى عليه السلام - الجزء الرابعقصة البقرة:بدأتأيامالتيه. بدأ السير في دائرة مغلقة. تنتهي من حيث تبدأ، وتبدأ من حيثتنتهي،بدأ السير إلى غير مقصد. ليلا ونهارا وصباحا ومساء. دخلوا البريةعند سيناء.
مكثموسى في قومه يدعوهم إلى الله. ويبدو أن نفوسهمكانت ملتوية بشكل لا تخطئهعين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرفبقصة البقرة.
فإنالموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهموبين موسى، كما أنه لم يكنيستوجب كل هذا التعنت. وأصل قصة البقرة أنقتيلا ثريا وجد يوما في بنيإسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحينأعياهم الأمر لجئوا لموسىليلجأ لربه.
ولجأ موسى لربه فأمره أنيأمر قومه أن يذبحوا بقرة.وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرةتصادفهم. غير أنهم بدءوا مفاوضتهمباللجاجة. اتهموا موسى بأنه يسخر منهمويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أنيكون من الجاهلين ويسخر منهم. أفهمهمأن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.
إنالأمر هنا أمر معجزة، لا علاقةلها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بينالناس. ليست هناك علاقة بين ذبحالبقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضةالتي وقعت، لكن متى كانت الأسبابالمنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟إن المعجزات الخارقة هي القانونالسائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادثالبقرة أمرا يوحي بالعجب أويثير الدهشة.
لكن بني إسرائيل هم بنوإسرائيل. مجرد التعامل معهمعنت. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة،وشؤون العقيدة المهمة. لا بدأن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل.
وهكذايعاني موسى منإيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيمايحدثهم به،ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبنيإسرائيل إلىالظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عاديةكما عهدنا منهذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسىربه ليبين ماهي.
ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية. بقرة متوسطة.
إلىهناكان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغةبنيإسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات. ما هو لون البقرة؟لماذايدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟
لا يراعون مقتضياتالأدبوالوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهمينبغي أنيخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لايستحق كل هذهاللجاجة والمراوغة.
ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.
وهكذاحددتالبقرة بأنها صفراء، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجةوالمراوغة.فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه. عادوا يسألون موسىأن يدعو اللهليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرةليست معدة لحرثولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصةالصفرة.
انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.
وأمسكموسىجزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته. سأله موسىعنقاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عادإلىالموت.
وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم،استمعوابآذانهم إلى اسم القاتل. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طالبسببلجاجتهم وتعنتهم.
نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدبالقوم معنبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهملكلمة "ربك"التي يخاطبون بها موسى. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى،تأدبا، لو كان لابد أن يقولوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ادع لنا ربنا. أماأن يقولوا له:فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى. ويخرجون أنفسهممن شرف العبوديةلله.
انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله. ثم تأملسخرية السياق منهملمجرد إيراده لقولهم: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} بعد أنأرهقوا نبيهم ذهاباوجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهمبسؤاله عن صفة البقرةولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديدالله عليهم، يقولونلنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه فيالبقر عادة.
ساعتهاقالوا له: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}. كأنه كانيلعب قبلها معهم، ولم يكنما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة. ثم انظرإلى ظلال السياق وما تشي بهمن ظلمهم: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْيَفْعَلُونَ} ألا توحي لك ظلالالآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهمولجاجتهم في الحق؟ هذه اللوحة الرائعةتشي بموقف بني إسرائيل على موائدالمفاوضات. هي صورتهم على مائدة المفاوضاتمع نبيهم الكريم موسى.
إيذاء بني إسرائيل لموسى:قاسى موسى من قومه أشد المقاساة، وعانى عناء عظيما، واحتمل في تبليغهم رسالته ما احتمل في سبيل الله.
ولعلمشكلةموسى الأساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد بالهوان والذل، وطالبقاؤهمفي جو يخلو من الحرية، وطال مكثهم وسط عبادة الأصنام، ولقد نجحتالمؤثراتالعديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرةالمهزومة التيلا تصلح لشيء. إلا أن تعذب أنبيائها ومصلحيها.
وقدعذب بنو إسرائيلموسى عذابا نستطيع -نحن أبناء هذا الزمان- أن ندرك وقعهعلى نفس موسىالنقية الحساسة الكريمة. ولم يقتصر العذاب على العصيانوالغباء واللجاجةوالجهل وعبادة الأوثان، وإنما تعدى الأمر إلى إيذاء موسىفي شخصه.
قالتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْامُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواوَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا(69)}... (الأحزاب).
ونحن لا تعرفكنه هذا الإيذاء، ونستبعد روايةبعض العلماء التي يقولون فيها أن موسى كانرجلا حييا يستتر دائما ولا يحبأن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهودبأنه مصاب بمرض جلدي أو برص، فأرادالله أن يبرئه مما قالوا، فذهب يستحميوما ووضع ثيابه على حجر، ثم خرج فإذاالحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراءالحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيلعاريا وليس بجلده عيب.
نستبعد هذه القصة لتفاهتها، فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملابسه، لا تعطي موسى حقه من التوقير، وهي تتنافى مع عصمته كنبي.
ونعتقدأناليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا، هذا هو الإيذاء الذي يدمي النفوسالكريمةويجرحها حقا، ولا نعرف كيف كان هذا الإيذاء، ولكننا نستطيع تخيلالمدىالعبقري الآثم الذي يستطيع بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى.
فترة التيه:ولعلأعظمإيذاء لموسى، كان رفض بني إسرائيل القتال من أجل نشر عقيدة التوحيدفيالأرض، أو على أقل تقدير، السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الأرض فيمكان،وتأمن على نفسها، وتمارس تعبدها في هدوء. لقد رفض بنو إسرائيلالقتال.وقالوا لموسى كلمتهم الشهيرة: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَفَقَاتِلا إِنَّاهَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
وبهذه النفسية حكم اللهعليهم بالتيه. وكانالحكم يحدد أربعين عاما كاملة، وقد مكث بنو إسرائيل فيالتيه أربعين سنة،حتى فني جيل بأكمله. فنى الجيل الخائر المهزوم منالداخل، وولد في ضياعالشتات وقسوة التيه جيل جديد. جيل لم يتربى وسط مناخوثني، ولم يشل روحهانعدام الحرية.
جيل لم ينهزم من الداخل، جيل لميعد يستطيع الأبناءفيه أن يفهموا لماذا يطوف الآباء هكذا بغير هدف في تيهلا يبدو له أول ولاتستبين له نهاية. إلا خشية من لقاء العدو. جيل صارمستعدا لدفع ثمن آدميتهوكرامته من دمائه. جيل لا يقول لموسى {فَاذْهَبْأَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاإِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية، كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد. أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه الأربعين عاما.
ولقدقدرلموسى. زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى. قدر له ألاتكتحلعيناه بمرأى هذا الجيل. فقد مات موسى عليه الصلاة والسلام قبل أنيدخل بنوإسرائيل الأرض التي كتب الله عليهم دخولها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله: قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر.
ماتهارونقبل موسى بزمن قصير. واقترب أجل موسى، عليه الصلاة والسلام. وكان لميزل فيالتيه. قال يدعو ربه: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر.
أحبأنيموت قريبا من الأرض التي هاجر إليها. وحث قومه عليها. ولكنه لميستطع،ومات في التيه. ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله فيالأرض حينأسرى به. قال محمد صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي مررت بموسىوهو قائميصلي في قبره عند الكثيب الأحمر.
تروي الأساطير عديدا منالحكاياتحول موت موسى، وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين جاء يستل روحه، وأمثالهذهالروايات كثيرة. لكننا لا نحب أن نخوض في هذه الروايات حتى لا ننجرفوراءالإسرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير.
مات موسى -عليه الصلاة والسلام- في التيه، وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل.
قارون وقوم موسى:يرويلناالقرآن قصة قارون، وهو من قوم موسى. لكن القرآن لا يحدد زمن القصةولامكانها. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟أووقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعدموسى؟وبعيدا عن الروايات المختلفة، نورد القصة كما ذكرها القرآن الكريم.
يحدثنااللهعن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضمالكنوز، كانيصعب حملها على مجموعة من الرجال الأشداء. ولو عرفنا عنمفاتيح الكنوز هذهالحال، فكيف كانت الكنوز ذاتها؟!
لكن قارون بغىعلى قومه بعد أنآتاه الله الثراء. ولا يذكر القرآن فيم كان البغي، ليدعهمجهلا يشمل شتىالصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم.وربما بغى عليهمبحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموالالأغنياء. وربما بغىعليهم بغير هذه الأسباب.
ويبدو أن العقلاء منقومه نصحوه بالقصدوالاعتدال، وهو المنهج السليم. فهم يحذروه من الفرحالذي يؤدي بصاحبه إلىنسيان من هو المنعم بهذا المال، وينصحونه بالتمتعبالمال في الدنيا، من غيرأن ينسى الآخرة، فعليه أن يعمل لآخرته بهذاالمال. ويذكرونه بأن هذا المالهبة من الله وإحسان، فعليه أن يحسن ويتصدقمن هذا المال، حتى يرد الإحسانبالإحسان.
ويحذرونه من الفساد فيالأرض، بالبغي، والظلم، والحسد،والبغضاء، وإنفاق المال في غير وجهه، أوإمساكه عما يجب أن يكون فيه. فاللهلا يحب المفسدين.
فكان رد قارونجملة واحد تحمل شتى معاني الفساد{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍعِندِي}. لقد أنساه غروره مصدرهذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال وأعماهالثراء. فلم يستمع قارون لنداءقومه، ولم يشعر بنعمة ربه.
وخرجقارون ذات يوم على قومه، بكاملزينته، فطارت قلوب بعض القوم، وتمنوا أنلديهم مثل ما أوتي قارون، وأحسواأنه في نعمة كبيرة. فرد عليهم من سمعهممن أهل العلم والإيمان: ويلكم أيهاالمخدوعون، احذروا الفتنة، واتقواالله، واعلموا أن ثواب الله خير من هذهالزينة، وما عند الله خير مما عندقارون.
وعندما تبلغ فتنة الزينةذروتها، وتتهافت أمامها النفوسوتتهاوى، تتدخل القدرة الإلهية لتضع حداللفتنة، وترحم الناس الضعاف منإغراءها، وتحطم الغرور والكبرياء، فيجيءالعقاب حاسما {فَخَسَفْنَا بِهِوَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} هكذا في لمحة خاطفةابتلعته الأرض وابتلعت داره.وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصربجاه أو مال.
وبدأالناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجبواعتبار. فقال الذين كانوايتمنون أن عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظهفي الدنيا: حقا إن اللهتعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويوسع عليهم،أو يقبض ذلك، فالحمد للهأن منّ علينا فحفظنا من الخسف والعذاب الأليم. إناتبنا إليك سبحانك، فلكالحمد في الأولى والآخرة.