قصه حياه سيدنا موسى عليه السلام - الجزء الثانىموعد موسى لملاقاة ربه:انتهتالمرحلة الأولى من مهمة موسى عليه السلام، وهي تخليص بني إسرائيل من حياةالذل والتعذيب على يد فرعون وجنده. والسير بهم إلى الديار المقدسة.
لكنالقوم لم يكونوا على استعداد للمهمة الكبرى، مهمة الخلافة في الأرض بدينالله. وكان الاختبار الأول أكبر دليل على ذلك. فما أن رأوا قوما يعبدونصنما، حتى اهتزت عقيدة التوحيد في نفوسهم، وطلبوا من موسى أن يجعل لهموثنا يعبدوه.
فكان لا بد من رسالة مفصلة لتربية هذه الأمة وإعدادهالما هم مقبلون عليه. من أجل هذه الرسالة كانت مواعدة الله لعبده موسىليلقاه. وكانت هذه المواعدة إعداد لنفس موسى ليتهيأ للموقف الهائل العظيم.فاستخلف في قومه أخاه هارون عليه السلام.
كانت فترة الإعداد ثلاثينليلة، أضيف إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة. يروض موسى فيها نفسه علىاللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض؛ فتصفو روحه وتتقوى عزيمته.
ويذكرابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي: (فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثينليلة؛ قال المفسرون: فصامها موسى -عليه السلام- وطواها، فلما تم الميقاتاستاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين).
كانموسى بصومه -أربعين ليلة- يقترب من ربه أكثر. وكان موسى بتكليم الله لهيزداد حبا في ربه أكثر. فطلب موسى أن يرى الله. ونحن لا نعرف أي مشاعركانت تجيش في قلب موسى عليه الصلاة والسلام حين سأل ربه الرؤية. أحياناكثيرة يدفع الحب البشري الناس إلى طلب المستحيل.
فما بالك بالحبالإلهي، وهو أصل الحب؟ إن عمق إحساس موسى بربه، وحبه لخالقه، واندفاعهالذي لم يزل يميز شخصيته. دفعه هذا كله إلى أن يسأل الله الرؤية.
وجاءه رد الحق عز وجل: {قَالَ لَن تَرَانِي}.
ولوأن الله تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا، لكان هذا عدلا منهسبحانه، غير أن الموقف هنا موقف حب إلهي من جانب موسى. موقف اندفاع يبررهالحب ولهذا أدركت رحمة الله تعالى موسى. أفهمه أنه لن يراه، لأن أحدا منالخلق لا يصمد لنور الله. أمره أن ينظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوفيراه.
قال تعالى: {وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِاسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُلِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا}
لا يصمد لنورالله أحد. فدكّ الجبل، وصار مسوّى في الأرض. وسقط موسى مغشيا عليه غائباعن وعيه. فلما أفاق قال سبحانك تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك.وتبت إليك عن تجاوزني للمدى في سؤالك! وأنا أول المؤمنين بك وبعظمتك.
ثمتتداركه رحمة ربه من جديد. فيتلقى موسى - عليه السلام - البشرى. بشرىالاصطفاء. مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص. قال تعالى: {قَالَيَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِيوَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}.
وقفكثير من المفسرين أمام قوله تعالى لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَىالنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي}. وأجريت مقارنات بينه وبين غيره منالأنبياء. فقيل إن هذا الاصطفاء كان خاصا بعصره وحده، ولا ينسحب على العصرالذي سبقه لوجود إبراهيم فيه، وإبراهيم خير من موسى، أيضا لا ينطبق هذاالاصطفاء على العصر الذي يأتي بعده، لوجود محمد بن عبد الله فيه، وهو أفضلمنهما.
ونحب أن نبتعد عن هذا الجدال كله. لا لأننا نعتقد أن كلالأنبياء سواء. إذا إن الله سبحانه وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين علىبعض، ورفع درجات بعضهم على البعض.
غير أن هذا التفضيل ينبغي أنيكون منطقة محرمة علينا، ولنقف نحن في موقع الإيمان بجميع الأنبياء لانتعداه. ولنؤد نحوهم فروض الاحترام على حد سواء. لا ينبغي أن يخوضالخاطئون في درجات المعصومين المختارين من الله. ليس من الأدب أن نفاضلنحن بين الأنبياء. الأولى أن نؤمن بهم جميعا.
ثم يبين الله تعالىمضمون الرسالة {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍمَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْقَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}ففيها كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعتهوالتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطولالأمد!
عبادة العجل:انتهىميقات موسى مع ربه تعالى. وعاد غضبان أسفا إلى قومه. فلقد أخبره الله أنقموه قد ضلّوا من بعده. وأن رجلا من بني إسرائيل يدعى السّامري هو منأضلّهم. انحدر موسى من قمة الجبل وهو يحمل ألواح التوراة، قلبه يغليبالغضب والأسف. نستطيع أن نتخيل انفعال موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه.
لميكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه. حتى وقعت فتنة السامري. وتفصيل هذهالفتنة أن بني إسرائيل حين خرجوا من مصر، صحبوا معهم كثيرا من حليالمصريين وذهبهم، حيث كانت نساء بني إسرائيل قد استعرنه للتزين به، وعندماأمروا بالخروج حملوه معهم. ثم قذفوها لأنها حرام. فأخذها السامري، وصنعمنها تمثالا لعجل.
وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو صائغاسابقا، فصنع العجل مجوفا من الداخل، ووضعه في اتجاه الريح، بحيث يدخلالهواء من فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خوار العجولالحقيقية.
ويقال إن سر هذا الخوار، أن السامري كان قد أخذ قبضة منتراب سار عليه جبريل -عليه السلام- حين نزل إلى الأرض في معجزة شق البحر.أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به، فقبض قبضة من أثر الرسول -جبريلعليه السلام- فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل.
وكان جبريل لايسير على شيء إلا دبت فيه الحياة. فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب، ثمصنع منه العجل، خار العجل كالعجول الحقيقية. وهذه هي القصة التي قالهاالسامري لموسى عليه السلام.
بعد ذلك، خرج السامري على بني إسرائيل بما صنعه..
سألوه: ما هذا يا سامري؟
قال: هذا إلهكم وإله موسى!
قالوا: لكن موسى ذهب لميقات إلهه.
قال السامري: لقد نسي موسى. ذهب للقاء ربه هناك، بينما ربه هنا.
وهبتموجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخار العجل. وعبدبنو إسرائيل هذا العجل. لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة. كيف يمكنالاستخفاف بعقول القوم لهذه الدرجة؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة. فكيفينقلبون إلى عبادة الأصنام في لحظة؟
تزول هذه الدهشة لو نظرنا فينفسية القوم الذين عبدوا العجل. لقد تربوا في مصر، أيام كانت مصر تعبدالأصنام وتقدس فيما تقدس العجل أبيس، وتربوا على الذل والعبودية، فتغيرتنفوسهم، والتوت فطرتهم، ومرت عليهم معجزات الله فصادفت نفوسا تالفة الأمل.لم يعد هناك ما يمكن أن يصنعه لهم أحد.
إن كلمات الله لم تعدهم إلىالحق، كما أن المعجزات الحسية لم تقنعهم بصدق الكلمات، ظلوا داخل أعماقهممن عبدة الأوثان. كانوا وثنيين مثل سادتهم المصريين القدماء. ولهذا السببانقلبوا إلى عبادة العجل.
وفوجئ هارون عليه الصلاة والسلام يومابأن بني إسرائيل يعبدون عجلا من الذهب. انقسموا إلى قسمين: الأقليةالمؤمنة أدركت أن هذا هراء. والأغلبية الكافرة طاوعت حنينها لعبادةالأوثان. ووقف هارون وسط قومه وراح يعظهم. قال لهم: إنكم فتنتم به، هذهفتنة، استغل السامري جهلكم وفتنكم بعجله. ليس هذا ربكم ولا رب موسى{وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}.
ورفضعبدة العجل موعظة هارون. لكن هارون -عليه السلام- عاد يعظهم ويذكرهمبمعجزات الله التي أنقذهم بها، وتكريمه ورعايته لهم، فأصموا آذانهم ورفضواكلماته، واستضعفوه وكادوا يقتلونه، وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتىعودة موسى.
كان واضحا أن هارون أكثر لينا من موسى، لم يكن يهابهالقوم للينه وشفقته. وخشي هارون أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم صنمهم الذييعبدونه فتثور فتنة بين القوم. فآثر هارون تأجيل الموضوع إلى أن يحضر موسى.
كان يعرف أن موسى بشخصيته القوية، يستطيع أن يضع حدا لهذه الفتنة. واستمر القوم يرقصون حول العجل.
انحدرموسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العجل. توقفالقوم حين ظهر موسى وساد صمت. صرخ موسى يقول: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِيمِن بَعْدِيَ}.
اتجه موسى نحو هارون وألقى ألواح التوراة من يدهعلى الأرض. كان إعصار الغضب داخل موسى يتحكم فيه تماما. مد موسى يديهوأمسك هارون من شعر رأسه وشعر لحيته وشده نحوه وهو يرتعش. قال موسى: {يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِأَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}... (طه).
إن موسى يتساءل هل عصى هارونأمره. كيف سكت على هذه الفتنة؟ كيف طاوعهم على البقاء معهم ولم يخرجويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أصلا؟ إن الساكت عن الخطأ مشتركفيه بشكل ما. زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة.
وتحدث هارونإلى موسى. رجا منه أن يترك رأسه ولحيته. بحق انتمائهما لأم واحدة. وهويذكره بالأم ولا يذكره بالأب ليكون ذلك أدعى لاستثارة مشاعر الحنو في نفسه.
أفهمهأن الأمر ليس فيه عصيان له. وليس فيه رضا بموقف عبدة العجل. إنما خشي أنيتركهم ويمضي، فيسأله موسى كيف لم يبق فيهم وقد تركه موسى مسئولا عنهم،وخشي لو قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتالا فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولمينتظر عودته.
أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه،وكادوا يقتلونه حين قاومهم. رجا منه أن يترك رأسه ولحيته حتى لا يشمت بهالأعداء، ويستخف به القوم زيادة على استخفافهم به. أفهمه أنه ليس ظالمامثلهم عندما سكت عن ظلمهم.
أدرك موسى أنه ظلم هارون في غضبه الذيأشعلته غيرته على الله تعالى وحرصه على الحق. أدرك أن هارون تصرف أفضلتصرف ممكن في هذه الظروف. ترك رأسه ولحيته واستغفر الله له ولأخيه.
التفتموسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا: {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْرَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْأَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُممَّوْعِدِي}.
إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ماعملوه. عاد موسى يقول غاضبا أشد الغضب: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْالْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِالدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
لم تكد الجبالتبتلع أصداء الصوت الغاضب حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم. كانافتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موسى. أبعد كل ما فعله الله تعالىلهم، ينكفئون على عبادة الأصنام؟! أيغيب موسى أربعين يوما ثم يعود ليجدهميعبدون عجلا من الذهب. أهذا تصرف قوم، عهد الله إليهم بأمانة التوحيد فيالأرض؟
التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون. لقدأثبت له هارون براءته كمسئول عن قومه في غيبته، كما سكت القوم ونكسوارءوسهم أمام ثورة موسى، لم يبق إلا المسئول الأول عن الفتنة. لم يبق إلاالسامري.
تحدث موسى إلى السامري وغضبه لم يهدأ بعد: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}.
إنه يسأله عن قصته، ويريد أن يعرف منه ما الذي حمله على ما صنع. قال السامري: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}.
رأيت جبريل وهو يركب فرسه فلا تضع قدمها على شيء إلا دبت فيه الحياة. {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}.
أخذت حفنة من التراب الذي سار عليه جبريل وألقيتها على الذهب. {فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}.
هذا ما ساقتني نفسي إليه.
لميناقش موسى، عليه السلام السامري في ادعائه. إنما قذف في وجهه حكم الحق.ليس المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل، عليه السلام، فقبض قبضة من أثره.ليس المهم أن يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبريل،أو يكون الخوار بسبب ثقب اصطنعه السامري ليخور العجل.
المهم فيالأمر كله جريمة السامري، وفتنته لقوم موسى، واستغلاله إعجاب القوم الدفينبسادتهم المصريين، وتقليدهم لهم في عبادة الأوثان. هذه هي الجريمة التيحكم فيها موسى عليه السلام: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِأَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُوَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًالَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}.
حكمموسى على السامري بالوحدة في الدنيا. يقول بعض المفسرين: إن موسى دعا علىالسامري بأن لا يمس أحدا، معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه.
ونعتقدأن الأمر أخطر كثيرا من هذه النظرة السريعة. إن السامري أراد بفتنته ضلالبني إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم، وقد جاءت عقوبتهمساوية لجرمه، لقد حكم عليه بالنبذ والوحدة. هل مرض السامري مرضا جلديابشعا صار الناس يأنفون من لمسه أو مجرد الاقتراب منه؟ هل جاءه النبذ منخارج جسده؟
لا نعرف ماذا كان من أمر الأسلوب الذي تمت به وحدةالسامري ونبذ المجتمع له. كل ما نعرفه أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة، كانأهون منها القتل، فقد عاش السامري منبوذا محتقرا لا يلمس شيئا ولا يمسأحدا ولا يقترب منه مخلوق. هذه هي عقوبته في الدنيا، ويوم القيامة لهعقوبة ثانية، يبهمها السياق لتجيء ظلالها في النفس أخطر وأرعب.
نهضموسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار. لم يكتفبصهره أمام عيون القوم المبهوتين، وإنما نسفه في البحر نسفا. تحول الإلهالمعبود أمام عيون المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر. ارتفع صوتموسى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} هذا هو إلهكم، وليس ذلك الصنم الذي لا يملكلنفسه نفعا ولا ضرا.
بعد أن نسف موسى الصنم، وفرغ من الجانيالأصلي، التفت إلى قومه، وحكم في القضية كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهموترك لعبدة العجل مجالا واحدا للتوبة. وكان هذا المجال أن يقتل المطيع منبني إسرائي من عصى.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِيَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَفَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌلَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُالرَّحِيم (54)}... (البقرة).
كانت العقوبة التي قررها موسى علىعبدة العجل مهولة، وتتفق مع الجرم الأصلي. إن عبادة الأوثان إهدار لحياةالعقل وصحوته، وهي الصحوة التي تميز الإنسان عن غيره من البهائموالجمادات، وإزاء هذا الإزهاق لصحوة العقل، تجيء العقوبة إزهاقا لحياةالجسد نفسه، فليس بعد العقل للإنسان حياة يتميز بها. ومن نوع الجرم جاءتالعقوبة. جاءت قاسية ثم رحم الله تعالى وتاب. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُالرَّحِيم .
أخيرا. سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ. تأمل تعبيرالقرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة كائن يقود تصرفات موسى، ابتداء منإلقائه لألواح التوراة، وشده للحية أخيه ورأسه. وانتهاء بنسف العجل فيالبحر، وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا.
أخيرا سكت عن موسى الغضب.زايله غضبه في الله، وذلك أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالاحترام والتوقير.التفت موسى إلى مهمته الأصلية حين زايله غضبه فتذكر أنه ألقى ألواحالتوراة. وعاد موسى يأخذ الألواح ويعاود دعوته إلى الله.
رفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل:
عادموسى إلى هدوئه، واستأنف جهاده في الله، وقرأ ألواح التوراة على قومه.أمرهم في البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم. ومن المدهش أن قومهساوموه على الحق. قالوا: انشر علينا الألواح فإن كانت أوامرها ونواهيهاسهلة قبلناها.
فقال موسى: بل اقبلوها بما فيها. فراجعوا مرارا،فأمر الله تعالى ملائكته فرفعت الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامةفوقهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها بما فيها سقط ذلك الجبل عليكم، فقبلوابذلك، وأمروا بالسجود فسجدوا. وضعوا خدودهم على الأرض وراحوا ينظرون إلىالجبل فوقهم هلعا ورعبا.
وهكذا أثبت قوم موسى أنهم لا يسلمونوجوههم لله إلا إذا لويت أعناقهم بمعجزة حسية باهرة تلقي الرعب في القلوبوتنثني الأقدام نحو سجود قاهر يدفع الخوف إليه دفعا. وهكذا يساق الناسبالعصا الإلهية إلى الإيمان. يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الكافيينلقيام الاقتناع العقلي.
ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قومموسى، وهي المسئول الأول عن عدم اقتناعهم إلا بالقوة الحسية والمعجزاتالباهرة. لقد تربى قوم موسى ونشئوا وسط هوان وذل، أهدرت فيهما إنسانيتهموالتوت فطرته.
ولم يعد ممكنا بعد ازدهار الذل في نفوسهم واعتيادهمإياه، لم يعد ممكنا أن يساقوا إلى الخير إلا بالقوة. لقد اعتادوا أنتسيرهم القوة القاهرة لسادتهم القدامى، ولا بد لسيدهم الجديد (وهوالإيمان) من أن يقاسي الأهوال لتسييرهم، وأن يلجأ مضطرا إلى أسلوب القوةلينقذهم من الهلاك. لم تمر جريمة عبادة العجل دون آثار.
اختيار سبعين رجلا لميقات الله:أمرموسى بني إسرائيل أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه. اختار منهم سبعين رجلا،الخيّر فالخيّر، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوهالتوبة على من تركتم وراءكم من قومكم.
صوموا وتطهروا وطهرواثيابكم. خرج موسى بهؤلاء السبعين المختارين لميقات حدده له الله تعالى.دنا موسى من الجبل. وكلم الله تعالى موسى، وسمع السبعون موسى وهو يكلم ربه.
ولعلمعجزة كهذه المعجزة تكون الأخير، وتكون كافية لحمل الإيمان إلى القلوب مدىالحياة. غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة.إنما طلبوا رؤية الله تعالى. قالوا سمعنا ونريد أن نرى. قالوا لموسىببساطة: {يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.
هيمأساة تثير أشد الدهشة. وهي مأساة تشير إلى صلابة القلوب واستمساكهابالحسيات والماديات. كوفئ الطلب المتعنت بعقوبة صاعقة. أخذتهم رجفة مدمرةصعقت أرواحهم وأجسادهم على الفور. ماتوا.
أدرك موسى ما أحدثهالسبعون المختارون فملأه الأسى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهمويرحمهم، وألا يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم، وليس طلبهم رؤية الله تباركوتعالى وهم على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة كبرى.سفاهة لا يكفر عنها إلا الموت.
قد يطلب النبي رؤية ربه، كما فعلموسى، ورغم انطلاق الطلب من واقع الحب العظيم والهوى المسيطر، الذي يبرربما له من منطق خاص هذا الطلب، رغم هذا كله يعتبر طلب الرؤية تجاوزاللحدود، يجازى عليه النبي بالصعق، فما بالنا بصدور هذا الطلب من بشرخاطئين، بشر يحددون للرؤية مكانا وزمانا، بعد كل ما لقوه من معجزاتوآيات..؟ أليس هذا سفاهة كبرى..؟ وهكذا صعق من طلب الرؤية.. ووقف موسىيدعو ربه ويستعطفه ويترضاه..
يحكي المولى عز وجل دعاء موسى عليهالسلام بالتوبة على قومه في سورة الأعراف: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُسَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُقَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَأَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّفِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَوَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِين(155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِإِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءوَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَوَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِييَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِيَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّلَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُعَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْفَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْالنُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)}... (الأعراف).
هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه.ورضي الله تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم بعد موتهم، واستمع المختارون فيهذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحياة إلى النبوءة بمجيء محمد بن عبد اللهصلى الله عليه وسلم.
سنلاحظ طريقة الربط بين الحاضر والماضي فيالآية، إن الله تعالى يتجاوز زمن مخاطبة الرسول في الآيات إلى زمنينسابقين، هما نزول التوراة ونزول الإنجيل، ليقرر أنه (تعالى) بشّر بمحمد فيهذين الكتابين الكريمين.
نعتقد أن إيراد هذه البشرى جاء يوم صحبموسى من قومه سبعين رجلا هم شيوخ بني إسرائيل وأفضل من فيهم، لميقات ربه.في هذا اليوم الخطير بمعجزاته الكبرى، تم إيراد البشرى بآخر أنبياء اللهعز وجل.
يقول ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء، نقلا عن قتادة: إنموسى قال لربه: يا رب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس،يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. رب اجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال:ربي إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها. وكان من قبلهميقرءون كتابهم نظرا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه. وإن اللهأعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم. رب اجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فضول الضلالة. فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال:رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجرون عليها،وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق أحدهم بصدقة فقبلت منه بعث الله عليهانارا فأكلتها، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير. وإن الله أخذصدقاتهم من غنيهم لفقيرهم. رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم عملها كتبت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. رب اجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
نزول المن والسلوى:سارموسى بقومه في سيناء. وهي صحراء ليس فيها شجر يقي من الشمس، وليس فيهاطعام ولا ماء. وأدركتهم رحمة الله فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام.
والمنمادة يميل طعمها إلى الحلاوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة. وساق الله إليهمالسلوى، وهو نوع من أنواع الطيور يقال إنه (السمان). وحين اشتد بهم الظمأإلى الماء، وسيناء مكان يخلو من الماء، ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرتمنه اثنتا عشرة عينا من المياه.
وكان بنو إسرائيل ينقسمون إلى 12سبطا. فأرسل الله المياه لكل مجموعة. ورغم هذا الإكرام والحفاوة، تحركت فيالنفوس التواءاتها المريضة.
واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذاالطعام، واشتاقت نفوسهم إلى البصل والثوم والفول والعدس، وكانت هذهالأطعمة أطعمة مصرية تقليدية. وهكذا سأل بنو إسرائيل نبيهم موسى أن يدعوالله ليخرج لهم من الأرض هذه الأطعمة.
وعاد موسى يستلفتهم إلىظلمهم لأنفسهم، وحنينهم لأيام هوانهم في مصر، وكيف أنهم يتبطرون على خيرالطعام وأكرمه، ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه.
السير باتجاه بيت المقدس:سارموسى بقومه في اتجاه البيت المقدس. أمر موسى قومه بدخولها وقتال من فيهاوالاستيلاء عليها. وها قد جاء امتحانهم الأخير. بعد كل ما وقع لهم منالمعجزات والآيات والخوارق. جاء دورهم ليحاربوا -بوصفهم مؤمنين- قوما منعبده الأصنام.
رفض قوم موسى دخول الأراضي المقدسة. وحدثهم موسى عننعمة الله عليهم. كيف جعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون،وآتاهم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ.
وكان رد قومه عليه أنهم يخافون من القتال. قالوا: إن فيها قوما جبارين، ولن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يخرج منها هؤلاء.
وانضملموسى وهارون اثنان من القوم. تقول كتب القدماء إنهم خرجوا في ستمائة ألف.لم يجد موسى من بينهم غير رجلين على استعداد للقتال. وراح هذان الرجلانيحاولان إقناع القوم بدخول الأرض والقتال. قالا: إن مجرد دخولهم من البابسيجعل لهم النصر. ولكن بني إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشونفي أعماقهم.
مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم التي عاودتهم قبل ذلك حينرأوا قوما يعكفون على أصنامهم. فسدت فطرتهم، وانهزموا من الداخل، واعتادواالذل، فلم يعد في استطاعتهم أن يحاربوا. وإن بقي في استطاعتهم أن يتوقحواعلى نبي الله موسى وربه. وقال قوم موسى له كلمتهم الشهيرة: {فَاذْهَبْأَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} هكذا بصراحة وبلاالتواء.
أدرك موسى أن قومه ما عادوا يصلحون لشيء. مات الفرعون ولكنآثاره في النفوس باقية يحتاج شفاؤها لفترة طويلة. عاد موسى إلى ربه يحدثهأنه لا يملك إلا نفسه وأخاه. دعا موسى على قومه أن يفرق الله بينه وبينهم.
وأصدرالله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل. كان الحكمهو التيه أربعين عاما. حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة. ويولدبدلا منه جيل آخر، جيل لم يهزمه أحد من الداخل، ويستطيع ساعتها أن يقاتلوأن ينتصر.