قصه حياه سيدنا موسى عليه السلام - الجزء الثالثتحدي السحرة:وتبدأالجولة الثانية بين الحق والباطل. حيث شاور فرعون الملأ من حوله فيما يجبفعله. والملأ لهم مصلحة في أن تبقى الأمور على ما هي عليه، فهم مقربون منفرعون، ولهم نفوذ وسلطان. فأشاروا أن يرد على سحر موسى بسحر مثله، فيجمعالسحرة لتحدي موسى وأخاه.
حدد الميقات، وهو يوم الزينة. وبدأت حركةإعداد الجماهير وتحميسهم فدعوهم للتجمع وعدم التخلف عن الموعد، ليراقبوافوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذهالأمور.
أما السحرة، فقد ذهبوا لفرعون ليطمئنون على الأجروالمكافأة إن غلبوا موسى. فهم جماعة مأجورة، تبذل مهارتها مقابل الأجرالذي تنتظره؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجروالمصلحة. وهم هم ألاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم فيالخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا منالمقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله!
وفي ساحة المواجهة. والناسمجتمعون، وفرعون ينظر. حضر موسى وأخاه هارون عليهما السلام، وحضر السحرةوفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل، وكلهم ثقة بفوزهم في هذا التحدي.
لذابدءوا بتخيير موسى: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَمَنْ أَلْقَى} وتتجلى ثقة موسى -عليه السلام- في الجانب الآخر واستهانتهبالتحدي {بَلْ أَلْقُوا} فرمى السحرة عصيهم وحبالهم بعزة فرعون{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَإِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}.
رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذاالمكان يمتلئ بالثعابين فجأة {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِوَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. وحسبنا أن يقرر القرآنالكريم أنه سحر عظيم {وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، لندرك أي سحر كان.وحسبنا أن نعلم أنهم {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} وأثاروا الرهبة فيقلوبهم {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} لنتصور أي سحر كان. فنظر موسى عليه السلامإلى حبال السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.
في هذه اللحظة، يذكّره ربّهبأن معه القوة الكبرى. فهو الأعلى. ومعه الحق، أما هم فمعهم الباطل. معهالعقيدة ومعهم الحرفة. معه الإيمان بصدق الذي دفعه لما هو فيه ومعهم الأجرعلى المباراة ومغانم الحياة. موسى متصل بالقوة الكبرى والسحرة يخدمونمخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا.
لا تخف {وَأَلْقِ مَافِي يَمِينِكَ} وستهزمهم، فهو سحر من تدبير ساحر وعمله. والساحر لا يفلحأنى ذهب وفي أي طريق سار، لأنه يعتمد على الخيال والإيهام والخداع، ولايعتمد على حقيقة ثابتة باقية.
اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاها. لمتكد عصا موسى تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة الكبرى. وضخامة المعجزة حولتمشاعر ووجدان السحرة، الذين جاءوا للمباراة وهم أحرص الناس على الفوز لنيلالأجر. الذي بلغت براعتهم لحد أن يشعر موسى بالخوف من عملهم. تحولتمشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلام للتعبير: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداًقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}.
إنه فعل الحق فيالضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي الحقوالنور واليقين. إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أنيبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى. فهم أعلم إن كان هذا من عملبشر أو ساحر، أو أنه من القدرة التي تفوق قدرة البشر والسحر.
والعالمفي فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له، لأنه أقربإدراكا لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور. ومن هنا تحولالسحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجددون برهانه فيأنفسهم عن يقين.
هزت هذه المفاجأة العرش من تحته. مفاجأة استسلامالسحرة -وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن تمجمعهم لإبطال دعوة موسى وهارون لرب العالمين! ولأن العرش والسلطان أهم شيءفي حيات الطواغيت، فهم مستعدون لارتكاب أي جريمة في سبيل المحافظة عليهما.
تسائلفرعون مستغربا {آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} كأنما كان عليهم أنيستأذنوه في أن يعودوا للحق. لكنه طاغية متكبر متجبر أعمى السلطان عينيهعن الحق. ويزيد في طغيانه فيقول {إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُفِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} إن غلبته لكم في يومكمهذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، وهو يعلم وكل من له عقل أنهذا الذي قاله من أبطل الباطل.
ويظل الطاغية يتهدد {فَسَوْفَتَعْلَمُونَ} ويتوعد {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْخِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} لكن النفس البشرية حينتستيقن حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصرفيها العقيدة على الحياة، وتختار الخلود الدائم على الحياة الفانية.{قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} إنه الإيمان الذي لايتزعزع ولا يخضع.
ويعلن السحرة حقيقة المعركة {وَمَا تَنقِمُمِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} فلايطلبون الصفح والعفو من عدوّهم، إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين}. فيقفالطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الاطمئنان. عاجزا عن رد هؤلاء المؤمنينلطريق الباطل من جديد. فينفذ تهديده، ويصلبهم على جذوع النخل.
التآمر على موسى ومن آمن معه:وتبدأجولة جديدة بين الحق والباطل. فهاهم علية القوم من المصريين، يتآمرونويحرضون فرعون ويهيجونه على موسى ومن آمن معه، ويخوّفونه من عاقبة التهاونمعهم. وهم يرون الدعوة إلى ربوبية الله وحدة إفسادا في الأرض. حيث يترتبعليها بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله.
وقد كان فرعون يستمد قوتهمن ديانتهم الباطلة، حيث كان فرعون ابن الآلهة. فإن عبد موسى ومن معه اللهرب العالمين، لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم. فاستثارت هذه الكلمات فرعون،وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر {قَالَسَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْقَاهِرُونَ}.
لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل.فقد نُفِّذ عليهم هذا الحكم في إبان مولد موسى عليه السلام. فبدأ موسى-عليه السلام- يوصي قومه باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانةبالله عليها.
وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. والعاقبة لمنيتقي الله ولا يخشى أحدا سواه {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوابِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْعِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
إلا أن قومه بدءوايشتكون من العذاب الذي حل بهم {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَنتَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشيبما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك. وطال هذاالأذى حتى ما تبدو له نهاية!
فيمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهمبالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم فيالأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف، فاستخلاف الله لهم إنما هو ابتلاءلهم، فهو استخلاف للامتحان: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَعَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَتَعْمَلُونَ}.
وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى عليهالسلام. ومشهد آخر من مشاهد المواجهة بين الحق والباطل. حيث يحكي لما قصةتشاور فرعون مع الملأ في قتل موسى.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيأَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَدِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} أما موسى عليهالسلام فالتجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين، ولاذ بحامي اللائذين،ومجير المستجيرين {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّنكُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}.
موقف الرجل المؤمن من آل فرعون:كادتفكرة فرعون أن تحصل على التصديق لولا رجل من آل فرعون. رجل من رجال الدولةالكبار، لا يذكر القرآن اسمه، لأن اسمه لا يهم، لم يذكر صفته أيضا لأنصفته لا تعني شيئا، إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن. ذكره بالصفة التي لاقيمة لأي صفة بعدها.
تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}، تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها.
قالإن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة علىكونه رسولا، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبا، أو يكونصادقا، فإذا كان كاذبا {فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}، وهو لم يقل ولم يفعل مايستوجب قتله. وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذابالذي يعدنا به؟
تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه: إننااليوم في مراكز الحكم والقوة. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنامن عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.
وبدت كلماتهمقنعة. إنه رجل ليس متهما في ولائه لفرعون. وهو ليس من أتباع موسى.والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون. ولا شيء يسقط العروشكالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.
ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجلالمؤمن قوتها. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله. ورغم أن فرعون وجد فكرتهفي قتل موسى، صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون.
رغمذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة: {قَالَفِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّاسَبِيلَ الرَّشَادِ}.
هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}. هذا رأينا الخاص، وهو رأي يهديكم سبيلالرشاد. وكل رأي غيره خاطئ. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.
لم تتوقفالمناقشة عند هذا الحد. قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن.وعاد الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ، أدلة كافية على صدقموسى. وحذّرهم من المساس به. لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها، فأهلكها الله:قوم نوح، قوم عاد، قوم ثمود.
ثم ذكّرهم بتاريخ مصر نفسه. ذكّرهمبيوسف عليه السلام حين جاء بالبينات، فشك فيه الناس ثم آمنوا به بعد أنكادت النجاة تفلت منهم، ما الغرابة في إرسال الله للرسل؟ إن التاريخالقديم ينبغي أن يكون موضع نظر.
لقد انتصرت القلة المؤمنة حينأصبحت مؤمنة على الكثرة الكافرة. وسحق الله تعالى الكافرين. أغرقهمبالطوفان، وصعقهم بالصرخة. أو خسف بهم الأرض. ماذا ننتظر إذن؟ ومن أيننعلم أن وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟
كان حديثالرجل المؤمن ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة. ويبدو أنه أقنعالحاضرين بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب. وبالتالي فلا داعيلها.
إلا أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة والتمويه، كي لايواجه الحق جهرة، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه. وبعيد عناحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. فطلب أن يبنى له بناء عظيم، يصعدعليه ليرى إله موسى الذي يدعيه. وبعيدا أن يكون جادا في البحث عن إله موسىعلى هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معههذا التصور. وإنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصافوالتثبت من جهة أخرى.
بعد هذا الاستهتار، وهذا الإصرار، ألقى الرجلالمؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَاهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُالْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَاوَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌفَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيإِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِمَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِالْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُدَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَىاللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِإِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)}... (غافر).
أنهى الرجلالمؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة. بعدها انصرف. انصرف فتحول الجالسون منموسى إليه. بدءوا يمكرون للرجل المؤمن. بدءوا يتحدثون عما صدر منه. فتدخلتعناية الله تعالى {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَبِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وأنجته من فرعون وجنوده.
ابتلاء الله أهل مصر:أماحال مصر في تلك الفترة. فلقد مضى فرعون في تهديده، فقتل الرجال واستحياالنساء. وظل موسى وقومه يحتملون العذاب، ويرجون فرج الله، ويصبرون علىالابتلاء.
وظل فرعون في ظلاله وتحدّيه. فتدخلت قوة الله سبحانهوتعالى، وشاء الله تعالى أن يشدد على آل فرعون. ابتلاء لهم وتخويفا، ولكييصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه، وإثباتا لنبوة موسى وصدقه في الوقتنفسه. وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب.
أجدبت الأرض وشح النيلونقصت الثمار وجاع الناس، واشتد القحط. لكن آل فرعون لم يدركوا العلاقةبين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله. فأخذوا يعللون الأسباب.فعندما تصيبهم حسنة، يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها. وإنأصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم موسى ومن معه عليهم، وأنها من تحت رأسهم!
وأخذتهمالعزة بالإثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط. وصورلهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم، آية جاء بها موسى ليسحرهم بها،وهي آية لن يؤمنوا بها مهما حدث.
فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلىالله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه. فأرسل عليهم الطوفان، والجراد،والقمل -وهو السوس- والضفادع، والدم. ولا يذكر القرآن إن كانت جملة واحدة،أم واحدة تلو الأخرى.
وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدةتلو الأخرى. إلا أن المهم هو طلب آل فرعون من موسى أن يدعو لهم ربهلينقذهم من هذا البلاء. وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذاأنجاهم ورفع عنهم هذا البلاء {قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَبِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَوَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ}.
فكان موسى -عليهالسلام- يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب. وما أن ينكشف البلاء حتى ينقضونعهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَإِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}.
لم يهتدالمصريون، ولم يوفوا بعهودهم، بل على العكس من ذلك. خرج فرعون لقومه،وأعلن أنه إله. أليس له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، أعلن أن موسىساحر كذاب. ورجل فقير لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب.
ويعبّرالقرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}.استخف بعقولهم. واستخف بحريتهم. واستخف بمستقبلهم. واستخف بآدميتهم.فأطاعوه. أليست هذه طاعة غريبة. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قومافاسقين. إن الفسق يصرف الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره،ويورده الهلاك. وذلك ما وقع لقوم فرعون.
خروج بني إسرائيل من مصر:بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى. ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل، ولن يكف عن استخفافه بقومه. هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.
وَقَالَمُوسَى {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةًوَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَنسَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىقُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88)قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّسَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89)}... (يونس).
لم يكن قد آمنمع موسى فريق من قومه. فانتهى الأمر، وأوحي إلى موسى أن يخرج من مصر معبني إسرائيل. وأن يكور رحيلهم ليلا، بعد تدبير وتنظيم لأمر الرحيل. ونبأهأن فرعون سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه إلى ساحل البحر (وهو فيالغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات).
وبلغت الأخبارفرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج. فأرسل أوامره في مدن المملكة لحشد جيشعظيم. ليدرك موسى وقومه، ويفسد عليهم تدبيرهم. أعلن فرعون التعبئة العامة.وهذا من شأنه أن يشكل صورة في الأذهان، أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلىفرعون وملكه، فيكف يكون إلها من يخشى فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟!
لذلككان لابد من تهوين الأمر وذلك بتقليل شأن قوم موسى وحجمهم {إِنَّ هَؤُلَاءلَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} لكننا نطاردهم لأنهم أغاظونا، وعلى أي حال، فنحنحذرون مستعدون ممسكون بزمام الأمور.
وقف موسى أمام البحر. وبدا جيشالفرعون يقترب، وظهرت أعلامه. وامتلأ قوم موسى بالرعب. كان الموقف حرجاوخطيرا. إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم سفن أو أدوات لعبورالبحر، كما ليست أمامهم فرصة واحدة للقتال. إنهم مجموعة من النساءوالأطفال والرجال غير المسلحين. سيذبحهم فرعون عن آخرهم.
صرخت بعض الأصوات من قوم موسى: سيدركنا فرعون.
قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
لميكن يدري موسى كيف ستكون النجاة، لكن قلبه كان ممتلئا بالثقة بربه،واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، فالله هو اللي يوجهه ويرعاه. وفياللحظة الأخيرة، يجيء الوحي من الله {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِاضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه، فوقعت المعجزة {فَانفَلَقَ فَكَانَكُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} وتحققه المستحيل في منطق الناس، لكنالله إن أراد شيئا قال له كن فيكون.
ووصل فرعون إلى البحر. شاهدهذه المعجزة. شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين. فأمر جيشه بالتقدم.وحين انتهى موسى من عبور البحر. وأوحى الله إلى موسى أن يترك البحر علىحاله {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}.
وكانالله تعالى قد شاء إغراق الفرعون. فما أن صار فرعون وجنوده في منتصفالبحر، حتى أصدر الله أمره، فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه. وغرق فرعونوجيشه. غرق العناد ونجا الإيمان بالله.
ولما عاين فرعون الغرق، ولميعد يملك النجاة {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْبِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} سقطت عنه كلالأقنعة الزائفة، وتضائل، فلم يكتفي بأن يعلن إيمانه، بل والاستسلام أيضا{وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لكن بلا فائدة، فليس الآن وقت اختيار، بعدأن سبق العصيان والاستكبار {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَالْمُفْسِدِينَ}.
انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت. انتهى الأمرولا نجاة لك. سينجو جسدك وحده. لن تأكله الأسماك، ولين يحمله التيار بعيداعن الناس، بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك.
{فَالْيَوْمَنُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًامِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}... (يونس).
أسدلالستار على طغيان الفرعون. ولفظت الأمواج جثته إلى الشاطئ. بعد ذلك. نزلالستار تماما عن المصريين. لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم.فكان خروجهم هذا هو الأخير. وكان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جناتوعيون وكنوز؛ فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم!
لا يحدثنا القرآنالكريم عما فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط نظام الفرعون وغرقهمع جيشه. لا يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعونوقومه وما كانوا يشيدون. يسكت السياق القرآني عنهم. ويستبعدهم تماما منالتاريخ والأحداث.
نفسية بني إسرائيل الذليلة:قدمات فرعون مصر. غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل. ورغم موته، فقد ظلأثره باقيا في نفوس المصريين وبني إسرائيل. من الصعب على سنوات القهرالطويلة والذل المكثف أن تمر على نفوس الناس مر الكرام. لقد عوّد فرعونبني إسرائيل الذل لغير الله. هزم أرواحهم وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذاباشديدا بالعناد والجهل.
كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية فيأذهانهم، حين مروا على قوم يعبدون الأصنام. وبدلا من أن يظهروا استيائهملهذا الظلم للعقل، ويحمدوا الله أن هداهم للإيمان. بدلا من ذلك التفتواإلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤلاء الناس.
أدركتهمالغيرة لمرأى الأصنام، ورغبوا في مثلها، وعاودهم الحنين لأيام الشركالقديمة التي عاشوها في ظل فرعون. واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا، وبيّنلهم أن عمل هؤلاء باطل، وأن الله فضل بني إسرائيل على العالمين فكيف يجحدهذا التفضيل ويجعل لهم صنما يعبدونه من دون الله. ثم ذكّرهم بفرعون وعذابهلهم، وكيف أن الله نجاهم منه، فكيف بعد ذلك يشركون بالله مالا يضر ولاينفع.